لون العتمة | قصّة

 

قبل المغيب بدقيقتين فقط، شهدت المدينة توقّف الساعات كلّها للحظة واحدة فقط، وبدأت عقاربها تعود إلى الخلف باتّجاه معاكس لحركتها. في تلك الأثناء، كانت الشمس ساكنة عند النقطة نفسها، لا ترتفع إلى موضعها قبل الآن، ولا تغوص إلى ما وراء الساحل. ذُهِلَ سكّان المدينة بما رأوا؛ منهم من بدأ بالاستغفار ومنهم من تلا صلاواته لأوّل مرّة، ومنهم من طفق يشدّ شعره، لكنّ أحدًا منهم لم يغادر مطرحه. حالة جمود في المكان، وتغيّر في حركة العقارب لا أكثر.

 صار الوقت عصرًا فظهرًا فشروقًا، والشمس ساكنة وما المتغيّر سوى ساعات اليد، الحائط، الهواتف المحمولة، ساعة المدينة، وألوان السماء، من حمرة لزرقة مخضّبة لزرقة صافية لاندماج ثوريّ بين الأصفر والأزرق، وصولًا للطخة زرقاء فاتحة في لوحة سوداء. صاح الديك وقتها فهذا موعده. حلّ الفجر فاستيقظ صرصار الليل ونادى جاره البوم. لا قمر ولا نجوم في المشهد. كان سوادًا طاغيًا من ليل وبقعة من الشمس الساكنة غير المتزحزحة، كأنّها مصباح ملتصق بباطن السماء. بدأ اللون الأبيض بمعاركة الأسود حتّى تتبيّن الأشياء. والناس في مطارحهم دون أدنى حركة للأقدام، حتّى مضت أربع وعشرون ساعة. أو كأنّها رحلت وحُذِفَتْ. أو ربّما تكرّرت، وخلقت يومًا إضافيًّا جديدًا. ثمّ تتحرّك الشمس وتكمل المسير نحو الغروب.

لا أحد ناقش الأمر مع جاره، ولا سأل أحدهم آخرًا عمّا حدث. لم تتناقل وسائل الأخبار الحكاية، ولم يعرف أحد إن زِيدَ يوم على حياته أو نقص. كان سكّان المدينة بعد ذلك في حالة من التأهّب لشروق يوم جديد، ومحاولات قدر الإمكان لانتقاص لحظات من حياة دون البحث عن إجابات قبل الموت. ثمّة شخص واحد فقط لم يكتم سرًّا.

يروي قصّته: أعود بعد عملي إلى بيتي – آخر بيت في الحارة، حيث لا جيران ولا صحبة إلّا من كلب يشغل بعض وقتي. كلّ يوم أفتح باب الثلّاجة، وأدير العجلة إلى درجة واحدة فوق الصفر. أقوم بإخراج الرفوف والجوارير وما فيها من أغراض فيتّسع المكان للجلوس داخله. أدخل وأتمركز متربّعًا، ثمّ أمسك بطرف باب الثلّاجة وأضمّه إليّ وأتّبع اختفاء الضوء عند اقترابه من الانغلاق، ثمّ ينطفئ وتبدأ سهرة خاصّة بي مدّتها ربع ساعة يوميًّا.

في هذا العتم تتبدّى زرقتي بما ألبسه، فقبل أن أدخل إلى هذا المكعّب البارد ارتدي ما لديّ من ملابس زرقاء - ليست فاقعة أو معتمة، إنّما بين بين، ذلك الازرقاق الّذي ترتاح له العين حين تراه، وتبرد القلوب عند ملامسته. أسمع صوت مطر يطرق سطح البيت، لكنّها والله لمسافة ثقيلة أن أخرج إليه، وإنّني أعلم تمامًا أنّه يحاول التسلّل من أحد الشبابيك أو شقوق السطح، فيجد ثغرة ما لينزّ باحثًا عن خراب جديد.

 أحاول التركيز على ما جئت به قاصدًا عزلتي هذه، فأغمض عينيّ، ولا شيء يتبيّن؛ إذ لا فرق الآن بين السواد خارجهما أو داخلهما، إلّا في هذه الزرقة الّتي أرتديها. أشغّل صوت تسجيل في أعماق مخيّلتي: "أنت بارد، أنت مطر، أنت شتاء، أنت جليد، بارد جليد، أنت أزرق، جليد بارد أزرق"، أكرّرها بصوت لا أدري هل أنطق به أم أنّني أسمعه مباشرة من داخلي. أكمل: "لا تحبّ أحدًا، ولا أحد يحبّك. وحيد، منعزل، أنانيّ، بارد".

أستوقف نفسي قليلًا، كالعادة، وأقول بصوت مسموع هذه المرّة: "كاذب". في ذلك التوقيت، لا أشعر بالبرد، فأتحسّس موضع مؤشّر التبريد ثمّ أحرّكه بعكس عقارب الساعة فأسمع مرّتين صوت اصطدام المسنّنات الداخليّة ببعضها، وهذا يعني مزيدًا من البرودة من حولي، وأنّني أمدّ المكان بدفء محبوس فيّ. بعد نهاية ربع الساعة أفتح باب الثلّاجة، وأخرج على بطء حبوًا نحو أقرب مرآة أجدها، أحدّق في عينيّ. عيناي تنظر إليهما. ثمّ أمسك قلمًا قريبًا وأهمّ برسم لوحة جديدة.

لا أجد ورقة بيضاء، بل ما كان متوفّرًا لحظتها هو ورق مسطّر، وإنّني لأكرهه. واحد وعشرون سطرًا بلون أزرق باهت، لا يميلون وبينهم مسافات ثابتة لا تتغيّر. كأنّ الورقة تأمرني أن أبدأ من أقصى اليمين حتّى اليسار، ثمّ أقفز عائدًا إلى اليمين بحركات آليّة، محكومًا بقواعدها. أفتّش مرّة أخرى عن ورقة جديدة دون جدوى، فتخطر في بالي فكرة انتقام. عكست اتّجاه الورقة ثمّ أمسكت بقلم أحمر بطريقة الإمساك بخنجر كأنّني أجرحها قاطعًا فيها كلّ الأسطر، وكلّما دخلت الفراغ بين سطرين هدأت فإذا اقتربت من الخطّ الأزرق شددت على القلم فأقطع الخطّ الأزرق، ثمّ أركن ثمّ أجزّ وهكذا حتّى استفقت من حالة فقدان للوعي قصير المدى.

 أنظر إلى الورقة فأجد سطرًا أحمر قطع كل الخطوط الزرقاء الباهتة! من هذا الخطّ انطلقت في رسم لوحة متخيّلة. أتناول صندوق ألواني، وريشتي الخاصّة. وأرسم طبقة حمراء اللون، فيها درجة ذهبيّة متوهّجة اللون. لا تعجبني. فأزيد طبقة فوقها من اللون الأزرق وأخوته من الدرجات الصافية. لا تعجبني. فأحوّلها إلى سواد حالك. ثمّ أقلب الورقة بالعكس، ممسكًا بريشتي الملطّخة بالألوان عاجزًا عن رسم شيء جديد. أنظر إلى ساعتي، فأجدها تشير إلى ما قبل المغيب بدقيقتين.

 


 

أحمد جابر

 

 

 

قاصّ وكاتب من فلسطين. حاصل على الماجستير في «هندسة الطرق والمواصلات». حائز على جائزة مؤسّسة «عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ» (2017)، عن مجموعته القصصيّة «السيّد أزرق في السينما».